فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الناصر: ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا، قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26- 27]، فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف، دونها، لرفع التهمة وإبعاد الظن، وإدلالًا بأن الحق معه، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة. وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة، ما في قصة يوسف مع أخيه؛ إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه. انتهى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} قال الزمخشري: يحتمل أنه إن كان مسرفًا كذابًا، خذله الله وأهلكه، ولم يستقم له أمر، فتتخلصون منه، وأنه لو كان مسرفًا كذابًا لما هداه الله للنبوة، ولما عضده بالبينات.
{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: عالين وقاهرين، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم بأنفسكم، ولا تعرضونا لعذابه تعالى: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم إلا ما أستصوبه من قتله؛ إذ البأس السماوي من أجل قتله، أمر متوهم. فإتباعه غلط: {وَمَا أَهْدِيكُمْ} أي: بإراءة رأي قتله: {إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} وهو دفع تبدل دينكم، وإظهار الفساد في الأرض، بإظهار أحكامه.
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم} أي: من قتله: {مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} أي: الطوائف الهالكة بالتكذيب: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} أي: جزائهم من الغرق: {وَعَادٍ} أي: من الريح العقيم: {وَثَمُودَ} أي: الصيحة: {وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ} أي: من الأمم المكذبة، مما يدل على أن الهلاك سنة مستمرة لأهل التكذيب؛ إذ لم يكن لهم ذنب آخر يوجبه: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} أي: فلا يعاقبهم بغير ذنب.
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} يعني يوم القيامة، أي: عذابه. سمي بذلك لما جاء في حديث «أن الأرض إذا زلزلت، وانشقت من قطر إلى قطر، وماجت وارتجت، فنظر الناس إلى ذلك، ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضًا» أي: من هول فزع النفخة. وقال قتادة: ينادي كل قوم بأعمالهم؛ ينادي أهل الجنة أهلَ الجنة وأهل النار أهلَ النار. وقيل لمناداة أهل الجنة أهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]، ومناداة أهل النار أهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50]، واختار البغوي وغيره أنه سُمّي لمجموع ذلك؛ أي: لوقوع الكل فيه.
{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي: ذاهبين فرارًا من الفزع الأكبر: {كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَيَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 11- 12] {مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي: من عذابه، من مانع، لتقرر الحجة عليكم: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} أي: بزيغه عن صراط ربه: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: من حجة، ولا مرشد إلى النجاة.
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: من قبل مجيء موسى بالحجج البينة والبراهين النيرة، على وجوب عبادته تعالى وحده. كقوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ} أي: مع ظهور استقامته الكافية في الدلالة على صحة ما جاءكم به، فلم يزل يقررها: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} أي: مات: {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا} أي: يقرر حججه. فقطعتم من عند أنفسكم، بعدم إرسال الله الرسول، مع الشك في إرسال من أعطاه البيانات، من فرط ضلالكم: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} أي: في التشكيك عند ظهور البراهين القطيعة: {مُّرْتَابٌ} أي: شاك مع ظهور لوائح اليقين.
{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} أي: برهان: {أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي: بطر للحق، لا يقبل الحجة، جبار في المجادلة، ألدّ فيصدر عنه أمثال ما ذكر، من الإسراف، والارتياب، والمجادلة في الباطل لطمس بصيرته، فلا يكاد يظهر له الحق.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي: قصرًا عاليًا ظاهرًا لكل أحد: {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي: طرقها: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أي: لأسأله عن إرساله، أو لأقف على كنهه: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} قال ابن جرير: أي: لأظن موسى كاذبًا فيما يقول ويدعي، من أن له في السماء ربًّا أرسله إلينا: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أي: سبيل الرشاد لما طبع على قلبه، من كبره، وتجّبره، وإسرافه، وإرتيابه: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي: خسار وهلاك، لذهاب نفقته على الصرح سدى، وعدم نيله، مما أراده من الاطلاع، شيئًا.
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: طريق الصواب الذي ترشدون إذا أخذتم فيه، واستكملتموه. ثم أشار إلى تفصيل ما أجمله بقوله: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي: تمتع يسير، لسرعة زوالها: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ} التي يوصل إليها سبيلي: {هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أي: الاستقرار، والخلود.
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تقدير، وموازنة بالعمل. بل أضعافًا مضاعفة. قال الزمخشري: قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} واقع في مقابلة: {إِلَّا مِثْلَهَا} يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق، فأما جزاء العمل الصالح فبغيره تقدير وحساب، بل ما شئت من الزيادة والكثرة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قوله: {حم} كقوله: {الم} وبابه. وقرأ الأخَوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة حاء في السورِ السبعِ إمالةً محضةً وورش وأبو عمرو بالإِمالة بينَ بينَ، والباقون بالفتح. والعامَّةُ على سكونِ الميم كسائرِ الحروفِ المقطعة. وقرأ الزهري برفعِ الميم على أنَّها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ والخبرُ ما بعدها. وابن أبي إسحاق وعيسى بفتحِها، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: اقرأ حم، وإنما مُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ، أو للعلميَّة وشبهِ العُجمة. وذلك أنه ليس في الأوزان العربيةِ وزنُ فاعيل بخلافِ الأعجمية، نحو: قابيل وهابيل. والثاني: أنها حركةُ بناءٍ تخفيفًا ك أينَ وكيف. وفي احتمال هذين الوجهين قولُ الكميت:
وَجَدْنا لكم في آلِ حَمَ آيةً ** تَأَوَّلَها منا تقيٌّ ومُعْرِبُ

وقول شريح بن أوفى:
يُذَكِّرُني حمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ ** فهلا تلا حمَ قبلَ التقدُّمِ

وقرأ أبو السَّمَّال بكسرِها، وهل يجوزُ أَنْ تُجْمَعَ {حم} على حواميم، نَقَل ابنُ الجوزي عن شيخِه الجواليقي أنه خطأٌ، بل الصوابُ أَنْ يقولَ: قَرَأْتُ آلَ حم. وفي الحديث عن ابن مسعود عنه عليه السلام: «إذا وَقَعْتَ في آلِ حم وَقَعْتَ في رَوْضَاتٍ» وقال الكميت:
وَجَدْنا لكم في آلِ حم

البيت. ومنهم مَنْ جَوَّزَه. ورُويَ في ذلك أحاديثُ منها: «الحواميم ديباجُ القرآن» ومنها: «مَنْ أرادَ أَنْ يرتعَ في رياضٍ مُوْنَقَةٍ من الجنة فليقرأْ الحواميم» ومنها: «مَثَلُ الحواميم في القرآن مَثَلُ الحَبِرات في الثياب» فإنْ صَحَّتْ هذه الأحاديثُ فهي الفَيْصَلُ في ذلك.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)}.
قوله: {تَنزِيلُ} إمَّا خبرٌ ل {حَم} إنْ كانت مبتدًا، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، وإمَّا مبتدأٌ. وخبرُه الجارُّ بعدَه.
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}.
قوله: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} في هذه الأوصافِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها كلَّها صفاتٌ للجلالة كالعزيز العليم. وإنما جازَ وَصْفُ المعرفةِ بهذه وإنْ كانَتْ إضافتُها لفظيةً؛ لأنه يجوزُ أَنْ تُجْعَلَ إضافتُها معنويةً فتتعرَّفَ بالإِضافةِ. نَصَّ سيبويه على أنَّ كلَّ ما إضافتُه غيرُ مَحْضةٍ جاز أن يُجْعَلَ مَحْضةً، وتُوصفَ به المعارفُ، إلاَّ الصفةَ المشبهةَ، ولم يَسْتَثْنِ غيرُه شيئًا وهم الكوفيون. يقولون في نحو: حَسَنُ الوجهِ إنه يجوزُ أن تصيرَ إضافتُه محضةً. وعلى هذا فقولُه {شديد العقابِ} من بابِ الصفةِ المشبهةِ فكيف أجزْتَ جَعْلَه صفةً للمعرفة وهو لا يَتَعَرَّفُ بالإِضافة؟
والجواب: إمَّا بالتزامِ مَذْهَبِ الكوفيين: وهو أنَّ الصفةَ المشبهةَ يجوزُ أَنْ تَتَمَحَّضَ إضافتُها أيضًا، فتكونَ معرفةً، وإمَّا بأنَّ شديدًا بمعنى مُشَدِّد ك أَذِيْن بمعنى مُؤَذِّن فتتمحَّضُ إضافتُه.
الثاني: أَنْ يكونَ الكلُّ أبدالًا لأنَّ إضافتَها غيرُ محضةٍ، قاله الزمخشري. إلاَّ أنَّ الإِبدال بالمشتقِّ قليلٌ جدًّا، إلاَّ أن يُهْجَرَ فيها جانبُ الوصفية.
الثالث: أَنْ يكونَ {غافر} و{قابل} نعتَيْن و{شديد} بدلًا، لِما تقدَّم: مِنْ أنَّ الصفةَ المشبهةَ لا تتعرَّفُ بالإِضافة، قاله الزجَّاج. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: جَعْلُ الزجَّاجِ {شديد العقاب} وحدَه بدلًا من الصفاتِ، فيه نُبُوٌّ ظاهرٌ، والوجهُ أن يُقال: لَمَّا صُودِفَ بين هذه المعارفِ هذه النكرةُ الواحدةُ فقد آذنَتْ بأنَّ كلَّها أبدالٌ غيرُ أوصافٍ. ومثالُ ذلك قصيدةٌ جاءت تفاعيلُها كلُها على مستفعلن فهي محكومٌ عليها أنها من الرَجَز، وإنْ وقع فيها جزءٌ واحدٌ على مَتَفاعلن كانت من الكامِل. وقد ناقشه الشيخ فقال: ولا نُبُوَّ في ذلك لأنَّ الجَرْيَ على القواعِدِ التي قد استقرَّتْ وصَحَّتْ هو الأصلُ وقوله: فقد آذنَتْ بأنَّ كلّها أبدالٌ تركيبٌ غيرُ عربيٍ؛ لأنه جَعَل فقد آذنَتْ جوابَ لَمَّا، وليس من كلامهم لَمَّا قام زيدٌ فقد قام عمروٌ. وقولُه: بأنَّ كلَّها أبدْالٌ فيه تكريرٌ للأبدالِ. أمَّا بَدَلُ البَداءِ عند مَنْ أثبتَه فقد تكرَّرَتْ فيه الأبدالُ. وأمَّا بدلُ كلٍ مِنْ كل وبعضٍ مِنْ كل وبدلُ اشتمالٍ فلا نصَّ عن أحد من النحويين أَعْرِفُه في جوازِ التكرارِ فيها أو مَنْعِه. إلاَّ أنَّ في كلامِ بعضِ أصحابِنا ما يَدُلُّ على أنَّ البدلَ لا يُكَرَّرُ، وذلك في قول الشاعر:
فإلى ابنِ أُمِّ أُناسٍ أَرْحَلُ ناقتي ** عمْروٍ فتُبْلِغُ حاجتي أو تُزْحِفُ

مَلِكٍ إذا نَزَلَ الوفودُ ببابِه ** عَرَفُوا موارِدَ مُزْبِدٍ لا يُنْزَفُ

قال: فَ مَلكٍ بدلٌ مِنْ عمرو بدلُ نكرةٍ مِنْ معرفة قال: فإنْ قلتَ: لِمَ لا يكونُ بدلًا من ابن أمِّ أناسٍ؟ قلت: لأنَّه أبدلَ منه عَمْرًا، فلا يجوزُ أَنْ يُبْدَلَ منه مرة أخرى لأنَّه قد طُرِحَ انتهى.
قال الشيخ: فَدَلَّ هذا على أنَّ البدلَ لا يتكَرَّرُ ويَتَّحد المبدلُ منه، ودَلَّ على أنَّ البدلَ من البدلِ جائزٌ. قلت: وقد تقدَّم له هذا البحثُ آخرَ الفاتحةِ عند قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] فعليك بمراجعته قال: وقولُه تفاعيلُها هو جمعُ تِفْعال أو تَفْعُول أو تُفْعُول أو تَفْعيل وليس شيءٌ منها معدودًا من أجزاء العَروض فإنَّ أجزاءَه منحصرةٌ ليس فيها شيءٌ من هذه الأوزانِ، فصوابُه أَنْ يقولَ: جاءت أجزاؤُها كلُّها على مُستفعلن.
وقال الزمخشري أيضًا: ولقائل أَنْ يقولَ: هي صفاتٌ وإنما حُذِفت الألفُ واللامُ مِنْ {شديد} ليزاوجَ ما قبلَه وما بعدَه لفظًا فقد غَيَّروا كثيرًا مِنْ كلامِهم عن قوانينِه لأجلِ الازدواجِ، فقالوا: ما يعرف سحادليه مِنْ عبادليه فَثَنُّوا ما هو وِتْرٌ لأجلِ ما هو شَفْعٌ. على أن الخليلَ قال في قولهم: ما يَحْسُنُ بالرجلِ مثلِك أَنْ يَفْعل ذلك و ما يَحْسُن بالرجلِ خيرٍ منك إنه على نيةِ الألفِ واللامِ، كما كان الجَمَّاء الغفير على نيةِ طرحِ الألفِ واللامِ. ومما سهَّل ذلك الأمنُ من اللَّبْسِ وجَهالَةُ الموصوفِ. قال الشيخُ: ولا ضرورةَ إلى حَذْفِ أل مِنْ {شديد العقاب} وتشبيهُه بنادرٍ مُغَيَّرٍ وهو تثنيةُ الوِتْر لأجلِ الشَّفْعِ، فيُنَزَّه كتابُ اللَّهِ عن ذلك. قلت: أمَّا الازدواجُ- وهو المشاكلة- من حيث هو فإنه واقعٌ في القرآن، مضى لك منه مواضعُ.
وقال الزمخشري أيضًا: ويجوزُ أَنْ يقالَ: قد تُعُمِّد تنكيرُه وإبهامُه للدلالةِ على فَرْطِ الشِّدَّةِ وعلى ما لا شيءَ أَدْهَى منه وأَمَرُّ لزيادةِ الإِنذار. ويجوز أَنْ يُقالَ: هذه النكتةُ هي الداعيةُ إلى اختيار البدلِ على الوصفِ، إذا سُلِكَتْ طريقةُ الإِبدالِ انتهى. وقال مكي: يجوزُ في {غافر} و{قابل} البدلُ على أنهما نكرتان لاستقبالِهما، والوصفُ على أنهما معرفتان لمُضِيِّهما.
وقال فخر الدين الرازي: لا نِزاعَ في جَعْل غافر وقابِل صفةً، وإنما كانا كذلك لأنهما يُفيدان معنى الدَّوامِ والاستمرارِ، فكذلك {شديدُ العقابِ} يُفيدُ ذلك؛ لأنَّ صفاتِه مُنَزَّهةٌ عن الحدوث والتجدُّدِ فمعناه كونُه بحيث شديدٌ عقابُه. وهذا المعنى حاصلٌ أبدًا لا يُوْصَف بأنَّه حَصَلَ بعد أَنْ لم يكنْ.
قال الشيخ: وهذا كلامُ مَنْ لم يَقِفْ على علمِ النحوِ ولا نظرَ فيه ويَلْزَمُه أَنْ يكونَ {حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] و{مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] معارفَ لتنزيهِ صفاتِه عن الحُدوثِ والتجدُّدِ، ولأنها صفاتٌ لم تَحْصُلْ بعد أَنْ لم تكنْ، ويكونُ تعريفُ صفاتِه بأل وتنكيرُها سواءً، وهذا لا يقولُه مُبْتدئ في علم النحو، بَلْهَ أَنْ يُصَنِّفَ فيه ويُقْدِمَ على تفسيرِ كتابِ اللَّهِ تعالى انتهى.
وقد سُرِدَتْ هذه الصفاتُ كلُّها مِنْ غير عاطفٍ إلاَّ {قابِل التوب} قال بعضهم: وإنما عُطِفَ لاجتماعِهما وتلازُمِهما وعَدَمِ انفكاكِ أحدِهما عن الآخر، وقَطَعَ {شديدِ} عنهما فلم يُعْطَفْ لانفرادِه. قال الشيخ: وفيه نَزْعَةٌ اعتزاليَّةٌ. ومَذْهَبُ أهلِ السنة جوازُ الغفران للعاصي وإن لم يَتُبْ إلاَّ الشركَ. قلت: وما أبعده عن نزعةِ الاعتزال. ثم أقول: التلازمُ لازمٌ مِنْ جهةِ أنه تعالى متى قَبِل التوبة فقد غَفَرَ الذنب وهو كافٍ في التلازم.
وقال الزمخشري: فإنْ قلتَ: ما بالُ الواوِ في قولِه: {وقابلِ التَّوْبِ}؟ قلت: فيها نُكْتةٌ جليلةٌ: وهي إفادةُ الجمعِ للمذنب التائبِ بين رحمتين: بين أَنْ يَقْبَلَ توبتَه فيكتبَها طاعةً من الطاعات وأنْ يجعلَها مَحَّاءةً للذنوب كمَنْ لم يُذْنِبْ كأنه قال: جامع المغفرةِ والقَبول انتهى.
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبرازِ هذه المعاني الحسنةِ. قال الشيخ: وما أكثرَ تبجُّجَ هذا الرجلِ وشَقْشَقَتَه والذي أفاد أن الواوَ للجمعِ، وهذا معروفٌ من ظاهرِ عَلِمِ النحوِ. قلت: وقد أنشدني بَعضُهم:
وكم مِنْ عائبٍ قَوْلًا صحيحًا ** وآفَتُه من الفَهْمِ السَّقيمِ

وقال آخر:
قد تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ ** ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ

والتَّوْبُ: يُحتمل أَنْ يكونَ اسمًا مفردًا مُرادًا به الجنسُ كالذَّنْب، وأَنْ يكونَ جمعًا لتَوْبة كتَمْرٍ وتَمْرَة. و{ذي الطَّوْلِ} نعتٌ أو بدلٌ كما تقدَّمَ. والطَّوْلُ: سَعَةُ الفَضْلِ.
و{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} يجوزُ أَنْ يكون مستأنفًا، وأَنْ يكونَ حالًا، وهي حالٌ لازمةٌ، وقال أبو البقاء: يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً، وعلى هذا ظاهرُه فاسدٌ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ صفةً للمعارفِ. ويمكنُ أَنْ يريدَ أنه صفةٌ ل {شديد العقاب} لأنَّه لم يتعرَّفْ عنده بالإِضافةِ. والقولُ في {إليه المصيرُ} كالقولِ في الجملةِ قبله، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالًا من الجملةِ قبلَه.
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)} وقرأ العامَّةُ {فلا يَغْرُرْكَ} بالفكِّ، وهي لغةُ الحجازِ. وزيد ابن علي وعبيد بن عُمَيْر {فلا يَغُرَّكَ} بالإِدغامِ مفتوحَ الراءِ، وهي لغةُ تميمٍ.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)} وقرأ عبد الله {برَسولها} أعاد الضميرَ على لفظ {أُمَّة}. والجمهورُ على معناها، وفي قوله: {ليَأْخُذوه} عبارةٌ عن المُسَبَّبِ بالسبب؛ وذلك أنَّ القَتْلَ مُسَبَّبٌ عن الأَخْذِ، ومنه قيل للأسير: أَخِيْذ. وقال:
فإمَّا تَأْخُذُوني تَقْتُلوني ** فكَمْ مِنْ آخِذٍ يَهْوَى خُلودي